الجمعة، 12 سبتمبر 2008

صدام حسين مقال من الزمن الجميل

صدام حسين مقال من الزمن الجميل




د. أمير البياتي
"كتب عنك الكثير، ومازال يكتب... ولكن الأكثر لم يكتب بعد... ذلك أن العالم أدرك بعد رحيلك أنه أضاع الفرصة الأثمن!!! "

في السنة الأولى من ثمانينيات القرن المنصرم كتبتُ موضوعاً إنشائياً لدرس اللغة الإنكليزية في الجامعة التي كنت أَدرس فيها في الولايات المتحدة الأمريكية وكان الموضوع بعنوان (صدام حسين: القائد الجديد لنهضة العرب). كان اسم القائد الشهيد غير معروفٍ للأمريكيين بعد وكان الإعلام الأمريكي يساهم بشكل كبير في تغذية هذا الجهل من خلال التجاهل المتعمد للقائد ودوره في بناء التجربة البعثية في العراق وتسليط الأضواء على "الثورة الإسلامية في إيران" وقائدها "الخميني" وملئ نشرات الأخبار بآخر تطورات ما سمي بأزمة الرهائن الأمريكيين من الدبلوماسيين الذين احتجزتهم إيران الخميني لمدة (444) يوماً ثم قايضت بهم الرئيس القادم حينها إلى البيت الأبيض رونالد ريغان ولكن مقابل ماذا؟؟؟ الله أعلم. غير إن الأحداث التي تلت وفضيحة إيران-كيت (Iran-Gate) كشفت المستور ولم يعد هناك من ينكر التعاون الأمريكي-الصهيوني-الإيراني إلا العملاء وعميان البصيرة. ورغم هذا، فإن من المؤكد أن أعين المخابرات الأمريكية وأفضل حواسها ومجساتها كانت باتجاه العراق وتجربته الفريدة في الديمقراطية والبناء، وكان هذا التجاهل لما يحصل في العراق أحد الإستراتيجيات المتبعة تجاه هذا البلد الذي كان يبني ويتجاوز الخطوط الحمراء واحداً بعد الآخر... هذا البلد الذي كان قد أسقط أول أحجار الدومينو حين أمم نفطه عام 1972 مجبراً الدول النفطية على أن تقوم بخطوة مماثلة أو بعضاً من خطوة، وبذلك كان قد أستحق العقاب الأمريكي الذي بدأ التخطيط له منذ ذلك الحين دون أن ننسى أن صدام حسين هو كان مهندس التأميم.

نقول إن الموضوع كان عن صدام حسين وكيف أنه الأنسب لقيادة النهضة العربية بعد أن فقدت القومية العربية المرحوم جمال عبد الناصر الذي كان قد أذكى الشعور الوطني لدى المواطن العربي وساعد على تأطيره، ولعب بذكاء بالغ أوراقه السياسية مستغلاً ظروف الحرب الباردة ووجود المعسكرين الشرقي والغربي... وكان لابد من إسقاط عبد الناصر، فأسقط سياسياً بعد أن فشلوا في إسقاطه شعبياً ثم تمّ اغتياله – على قول كثير من الكتاب والمحللين- ليأتي السادات ويبدأ طريق تصفية القضية الفلسطينية... وكان التخطيط لدور السادات كبيراً وكان يراد له أن يعطي مفعولاً سريعاً... لكن العراق وبقيادة الشهيد الخالد كان العصا التي أوقفت عجلة التداعي العربي وكانت قمة بغداد 1978 التي عزلت مصر الحكومة عن مصر الشعب وأعادت للمواطن العربي توازنه بعد زيارة العار التي قام بها السادات للقدس المحتلة. وكان هذا عملاً آخر يستحق العراق عليه العقاب!

لقد كان صدام حسين (رحمه الله) يرتكب " الأخطاء" التي تستحق أقسى العقوبات وكان الأمريكيون والانكليز والإيرانيون كل على حدة أو بالتنسيق مع بعضهم البعض يحاولون وبهدوء وبدون إثارة ضجة إسقاط النظام في العراق وبكل الوسائل المتاحة بدءً من الحرب الإعلامية مروراً بتذكية التمرد الكردي في شمال العراق ومده بمقومات الاستمرار وعرقلة التوقيع أولاً ثم التنفيذ ثانياً لبيان الحادي عشر من آذار/1970 والذي صممه وقاد تنفيذه خالد الذكر صدام حسين. وقد أعطى البيان تصوراً عملياً وبخطوات تطبيقية لحل شامل وكامل وعادل ودائم لقضية الحقوق القومية للأكراد، ثم بحلقات التآمر المتنوعة والمختلفة التي قادها أفراد من خارج الحزب تارة ومن داخله تارة أخرى، وأخيراً وليس آخراً الحرب بالنيابة التي بدأتها إيران وأصرت فيما بعد على استمرارها أعواماً ثمانية.

غير إن الحزب في العراق وقيادته الشابة الواعية كانت بالمرصاد لكل هذه الحلقات وتعاملت معها بطول نفس وفورية وبرحمة أبوية وحزم في آن واحد. ونذكر هنا أن الشهيد الخالد صدام حسين كان قد قال حين سأله الصحفيون عن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في إسقاط تجربة سيلفادور أليندي عام 1973 في تشيلي، قال إن العراق ليس تشيلي وإن صدام حسين ليس أليندي...

إذن فصدام حسين كشخص وكفكر وكتجربة هو ومن معه كانوا تحت مجهر المخابرات المعادية التي ربما حاولت شراء البعض منهم وربما نجحت في ذلك مع بعضهم، إلا أن التصور الغالب في الدوائر المخابراتية آنذاك هو أن " الشباب" سيتعبون وسيغلبهم حب السطوة والكراسي وأن إسقاطهم هو مسالة وقت ليس إلا- حالهم حال التجارب الثورية المماثلة في شرق الأرض وغربها...
وكانوا مخطئين... فقد صمد البعث وصدام حسين وصمدت التجربة العراقية الفريدة ودخلت في كثيرً من المناطق التي كان محظوراً على ثورات العالم الثالث ودولها أن تدخلها. وجن جنون الأعداء وثارت ثائرتهم إلا أنهم لم يجاهروا بهذا العداء، فليس معقولاً أن يجاهروا بفشلهم واستمروا في لعبة التجاهل تلك، بينما كان نجم صدام حسين آخذاً بالصعود، فعلى المستوى الداخلي كان للندوات التي قاد نقاشها العلني المباشر وعلى الهواء مباشرة تحت عنوان "ندوات رفع الإنتاجية" كان لتلك الندوات أثر كبير على عموم المواطنين العراقيين الذين كانوا يرون ويستمعون لأول مرة لصدام حسين وهو يناقش بجرأة وصراحة وحسم لم يعهدوه من قبل. فقد كان يطرح المشكلة ويشخص المسيء ويقترح الحلول ويناقشها ثم يتخذ القرار المناسب، وكل ذلك على الهواء وبديمقراطية وشفافية قلَّ نظيرها. وبدأ الناس-عموم الناس- يمنحونه الثقة التي كان الحزب والقيادة يبحثان عنها، والتي كانت ضرورية لعملية البناء والنهوض الشامليين اللتين تحققا فيما بعد. وسادت في ذلك الوقت " الهوسة" العراقية المشهورة ((كلش زين صدام سوّانا بعثية!!!)). وبالفعل، فقد ازدادت نسبة الكسب الحزبي للبعثيين بشكل ملحوظ وسجلت خطاً بيانياً متصاعداً غير مسبوق.

أمّا على الصعيد العربي، فقد أظهرت الطروحات العراقية في مؤتمرات القمة والتجمعات العربية الأخرى روحاً متحفزة تطرح المبادرات العملية وتبدأ بنفسها في تطبيقها، وتقدم البرامج الناجعة لوقف التداعي العربي بعد كل أزمة خطيرة مرَّ بها العمل العربي المشترك. غير إن القيادات العربية- وبعضها بحسن نية والأخرى بقصد- كانت تهدر تلك الفرص التي يتيحها لها العراق ويطرحها الشهيد الخالد بنفسه وتهدر معها فرصاً للنهوض وكسب احترام الجماهير، بل وتهدر معها فرصاً لتحقيق نصر ساحق على الكيان الصهيوني- العدو التاريخي للأمة العربية، كما حصل عام في تشرين الأول من عام 1973 حين وافقت مصر السادات وسوريا الأسد على وقف إطلاق النار فيما كان الجيش العراقي البطل وقيادته الحرة المناضلة يرسمون الخطط لبدء الهجوم المعاكس على الجيش الصهيوني الذي كان مذهولاً بقدرة القوات العراقية الباسلة على صد هجومه الواسع باتجاه دمشق، وإلحاق الهزيمة به في أول مواجهة حقيقية لهما في تلك الحرب. نعم. فقد كان العرب يضيعون الفرصة تلو الأخرى وتحت ذرائع وحجج شتى لا تخفي ضعف بعضهم وارتباط البعض الأخر بالدوائر المعادية وتلقي الأوامر منها. وكان الرجل الرجل صدام حسين يخاطب فيهم رجولتهم وينتخي إلى شهامتهم ويثوّر كبريائهم... وكانوا هم يتآمرون عليه ويستعينون بالأجنبي عليه، وفي أحسن الأحوال كانوا يكتفون بأن يحسدونه على قوة إيمانه وعزيمته مكتفين بأن " يبقى الحال على ما هو عليه" وغير عالمين أن دوام الحال من المحال، وأنهم كانوا يسيرون من سيء إلى أسوأ.

وكان دور القائد الشهيد في بعث الروح في حركة عدم الانحياز واضحاً، فقد كانت لتلك الحركة أن تكون الرد العملي على تنازع المعسكرين الشرقي والغربي على النفوذ، وكان يمكن لها أن تكون طوق النجاة للدول التي لا تستطيع أن تواجه ضغط أي من المعسكرين... واختارت قمة الحركة التي انعقدت في هافانا وحضرها الشهيد صدام حسين شخصياً بغدادَ لتكون مكاناً لانعقاد مؤتمرها القادم المزمع التئام عقده في أيلول- سبتمبر 1980. ولكن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية حال دون انعقاده كما كان مقرراً. وأصبح العراق في السبعينيات من القرن المنصرم كعبة يحج إليها كثير من زعماء وقيادات العالم وخصوصاً أولئك القادمين من الدول الفقيرة والمتخلفة أو ما أصطلح على تسميته بدول العالم الثالث. وكان صدام حسين محوراً مركزياً في تلك اللقاءات والزيارات يقدم العون المادي والمعنوي ويناقش المشاكل السياسية والاقتصادية لتلك البلدان ويطرح الحلول والمبادرات. وكل هذا كان يصب في خانة "الأخطاء والذنوب" التي كان يرتكبها المغفور له بإذن الله، ويجعل تلك الذنوب في نظر أعدائه ذنوباً غير قابلة للغفران!!!
وباستعراض كل ما تقدم، فقد كان صدام حسين يمسك بزمام قيادة نهضة العرب شاء الغرب أم أبى، ورضت ال(C.I.A.)أم لم ترضَ. ولم يكن هذا الموضوع يخفى على أحد من المتابعين ذوي النوايا الحسنة أو السيئة. غير إن ذلك لم يغيّر من سياسة التجاهل المتعمد التي كان يمارسها الإعلام الأمريكي تجاه القائد الشهيد حينها.

"إن صدام حسين ليس إلا دكتاتوراً آخر من أولئك الذين يزخر بهم العالم العربي" هذا كان تعليق مدرسة اللغة الإنكليزية على موضوعي الإنشائي المشار إليه في بداية المقال.!!! ولم يفاجئني هذا التعليق، ذلك أن الكل يعلم أن كل مدرسي اللغة الإنكليزية الذين يدرسون الطلبة الأجانب في أمريكا لابد أن يكون لهم ارتباط بشكل أو بآخر مع دوائر المخابرات الداخلية (FBI) أو الخارجية (C.I.A.)، حالهم حال مسؤولي موظفي مكاتب الطلبة الأجانب في الجامعات، ولم تكن مسز مور استثناءاً من هذه القاعدة. غير أن الذي فاجأني وأثار غضبي أنها قالت أن هذا ما أخبرها به صديقها الفلسطيني!!! فمن بين كل العرب كان الفلسطينيون هم أكثر الناس حصة في تفكير صدام حسين وسلوكه وتاريخه... وقد أثبتت الأحداث أن فلسطين كانت في قلب الأسباب التي أدت إلى غزو العراق وأسر قائده ومن ثم اغتياله... فقد كانت القضية الفلسطينية شغله الشاغل رحمه الله وهمه الأول وكان يرى فيها وطبقاً للفكر البعثي الذي آمن به حجر الزاوية في تحرير الأمة وقضيتها المركزية الأولى... ولولا فلسطين والفلسطينيون لما كان العداء الصهيوني للعراق وللقائد الشهيد على هذا المستوى من الحقد والتخطيط الخبيث، ولو كان الشهيد متاجراً بالقضية كما يفعل الحكام والملوك والأمراء من العرب وغيرهم لكان حاله حالهم-حاشاه... غير إن " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا" صدق الله العظيم...

ليست هناك تعليقات:

الجزيرة نت